=أعلم الأمة بالحلال والحرام=
كان معاذ بن جبل رضي الله عنه، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا، يبهر الأبصار بهائه وسمته، فاذا تحدّث ازدادت الإبصار إنبهاراً، وهو إذاً رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين، ورجل له مثل أسبقيته، ومثل إيمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزاة، وهكذا صنع معاذ، على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل».
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي الأنصاري... وكنيته أبو عبدالرحمن..هو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، يكنى أبا عبد الرحمن، إمام فقيه، وعالم، أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأردفه الرسول وراءه، وشيعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب، وبعثه قاضيًا إلى الجند من اليمن بعد غزوة تبوك وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة ليعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وكان له من الولد عبد الرحمن وأم عبد الله وولد آخر لم يذكر اسمه.
¤ نشأته وإسلامه:
عندما أسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الخزرج طلب من قومه أن يسلموا فأسلم الخزرج ومعهم معاذ رضي الله عنه وكان عمره ثماني عشرة سنة قدم مع قومه من المدينة الى مكة لمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية حضر المشاهد كلها وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير من الأحاديث النبوية.
لزم معاذ بن جبل النبي صلى الله عليه وسلم منذ هجرته إلى المدينة، فأخذ عنه القرآن وتلقى شرائع الإسلام حتى صار أقرأ الصحابة لكتاب الله وأعلمهم بشرعه.
وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبه شهادة له قول الرسول صلى الله عليه وسلم إستقرئوا القرآن من أربعة من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل.
قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يا مُعاذ، والله إني لأُحِبّك فلا تنْسَ أن تقول في عَقِب كل صلاة: اللهم أعِنّي على ذِكْرك وشكرك وحُسْن عبادتك.
ولقد حَذِق معاذ الدرس وأجاد التطبيق فقد لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم ذات صباح فسأله «كيف أصبحت يا معاذ؟» قال أصبحت مؤمنا حقّا يا رسول الله، قال النبي «إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» قال معاذ ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت أني لا أمْسي، ولا أمْسَيت مساء إلا ظننت أني لا أُصْبح، ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتْبِعُها غيرها، وكأني أنظر إلى كل أمّة جاثية تُدْعى إلى كتابها، وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يُنَعَّمون، وأهل النار في النار يُعَذّبون، فقال له الرسول «عرفتَ فالزم».
¤ رحلته إلى اليمن:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ مع رسل ملوك اليمن يعلم الناس دينهم وأوصاه بأمور عدة، فقد سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «بما تحكم يا معاذ؟» قال معاذ بكتاب الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فان لم تجد؟» قال معاذ بسنة رسول الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فان لم تجد؟» قال معاذ أجتهد رأي ولا آلو، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله».
¤ حُبّه للعلم:
كان معاذا رضي الله عنه دائب الدعوة إلى العلم والى ذكر الله، فقد كان يقول إحذروا زيْغ الحكيم، واعرفوا الحق بالحق، فإن للحق نوراً.
وكان يرى العبادة قصداُ وعدلا، قال له يوما أحد المسلمين علّمني، فسأله معاذ وهل أنت مطيعي إذا علمتك؟ قال الرجل إني على طاعتك لحريص، فقال له معاذ صُمْ وأفْطِر، وصَلِّ ونَمْ، واكْتَسِب ولا تأثَمْ، ولا تموتنَّ إلا مُسْلِما، وإياك ودَعْوَة المظلوم.
وكان يرى العلم معرفة وعملا فيقول تعلموا ماشئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعْمَلوا.
وكان يرى الإيمان بالله وذكره إستحضارا دائما لعظمته ومراجعة دائمة لسلوك النفس، يقول الأسود بن هلال كُنّا نمشي مع مُعاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نُؤْمِنْ ساعة.
¤ مكانته عند الخلفاء:
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره كثيرا وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين فيها برأي مُعاذ وفقهه لولا معاذ بن جبل لهلك عمر.
وأرسل والي الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أمير المؤمنين ان أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن وإحتاجوا الى من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فأرسل اليه عمر من يعلمهم وكان أحدهم معاذ بن جبل رضي الله عنه فلما مات أمير الشام أبو عبيدة إستخلفه أمير المؤمنين على الشام، ولم يمضِ عليه في الإمارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه منيبا، وكان عمر بن الخطاب يقول لو اسْتَخْلفْت معاذ بن جبل فسألني ربي: لماذا استخلفته؟...لقلت: سمعت نبيك يقول: إن العلماء إذا حضروا ربهم عزَّ وجل كان معاذ بين أيديهم.
¤ وصف ابن مسعود:
ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال إن معاذاً كان أمِّةً قانتاً للهِ حَنيفاً، ولقد كنّا نُشَبِّه معاذا بإبراهيم عليه السلام.
دخل عائذ الله بن عبد الله المسجد يوما مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر ويقول: جلست مجلسا فيه بضعٌ وثلاثون كلهم يَذْكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأُدْمَة حلو المنطق وضيء، وهو أشَبُّ القوم سِنّا، فإذا إشتبه عليهم من الحديث شيء رَدّوه إليه فَأفْتاهم، ولا يحدثهم إلا حين يسألونه، ولما قُضيَ مجلسهم دَنَوْتُ منه وسَألْتُه من أنت يا عبد الله؟... قال أنا معاذ بن جبل.
كما قال شهر بن حَوْشَب، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا إليه هيبة له.
¤ صفاته رضي الله عنه:
مات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل في اليمن، وفي خلافة أبي بكر رجِع معاذ إلى اليمن، وكان عمر بن الخطاب قد علِمَ أن معاذاً أثرى فإقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله، ولم ينتظر عمر بل نهض مسرعا إلى معاذ وأخبره، وقد كان معاذ رضي الله عنه طاهر الكف والذمّة، ولئن كان قد أثرى فإنه لم يكتسب إثما ومن ثم فقد رفض عرض عمر وناقشه رأيه، وتركه عمر وإنصرف، وفي الغداة سارع معاذ إلى عمر يلقاه ولا يكاد يراه حتى يعانقه ودموعه تسبق كلماته ويقول لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حَوْمَة ماء، أخشى على نفسي الغرق، حتى جئت فخلصتني يا عمر.
وذهبا معا إلى أبي بكر وطلب معاذ إليه أن يشاطره ماله فقال أبو بكر لا آخذ منك شيئاً، فنظر عمر إلى معاذ وقال له الآن حَلَّ وطاب، فما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق.
كما أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم ويوزع على فقرائهم صدقات أغنيائهم فقام بواجبه خير قيام وعاد إلى زوجه بحلسه، ما يوضع على ظهر الدابة الذي خرج به، فقالت له امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به الولاة من هدية لأهليهم؟ فقال معاذ: لقد كان معي رقيب يقظ يحصي علي، فقالت امرأته لقد كنت أمينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ثم جاء عمر فبعث معك رقيبا يحصي عليك، وشاع ذلك عند نساء عمر وشكته لهن فبلغ عمر، فأرسل الى معاذ وسأله أنا أرسلت معك رقيبا، فقال: يا أمير المؤمنين لم أجد ما إعتذر به الا هذا وقصدت بالرقيب الله عزوجل، فأعطاه عمر شيئا وقال أرضها به.
¤ وفـــــاته:
أصيب معاذ رضي الله عنه بالطاعون، فلما حضرته الوفاة قال مرحبا بالموت مرحبا، زائر بعد غياب وحبيب وفد على شوق، ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول اللهم إني كنتُ أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار، وجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء عند حلق الذكر، اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفسا مؤمنة، ثم فاضت روحه بعيدا عن الأهل داعيا إلى الله مهاجرا في سبيله، وكانت وفاته في السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية في طاعون عمواس وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
الكاتب: عمر غالب.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.